السبت، ٣ ذو القعدة ١٤٢٩ هـ

مفهوم الدولة في الخطاب السياسي المعاصر

مفهوم الدولة في الخطاب السياسي المعاصر
مع بداية عصر الحداثة ولد مفهوم الدولة القومية، وعادة ما يرجع مؤرخو الفقه الدستوري الميلاد النظري لهذا المفهوم إلى جون بودان في كتابه "ستة كتب في الجمهورية" سنة 1576 . وابتداء من هذه اللحظة التاريخية ومع بداية تفكك سلطة كنيسة روما وانحلال قبضتها الزمنية ، أخذت الدولة بمفهومها القومي ، وإطارها الجيوسياسي تقدم ذاتها بوصفها الشخصية السياسية الاولى الفاعلة في الواقع الدولي. بيد أن إرجاع الميلاد النظري لمفهوم الدولة الى بودان قد يُعترض عليه من خلال رؤية تاريخية تستحضر الاسهام الفلسفي/السياسي السابق الذي بلوره ميكيافيلي مثلا ، بل في هذا السياق يمكن أن يُستشهد بمقالة دانتريف القائل:"مع بودان دخلت كلمة سيادة في مفردات الحقوق والسياسة، كما فعلت كلمة دولة مع ميكيافيلي." إلا أن هذا الاعتراض يمكن تخطيه ببحث طبيعة مفهوم الدولة عند ميكيافيلي، حيث انها دولة أمير أو نبيل محدودة بحدود وسياجات الاقطاعية، بينما الدولة عند بودان أوسع نطاقا ، إنها دولة ملك وشعب في سياق قومي، مع تقديم مفهوم السيادة كمحدد أساس لها.والنظر في مسار التاريخ الاوربي منذ ميلاد الدولة القومية ، وانتظامها النظري وفق مفهوم السيادة سيلاحظ أن هذا المسار كان توكيدا مستمرا لقوتها وتمكينا لإطارها السياسي بوصفه الفاعل المحوري على مستوى العالم.لكن الملاحظة الثانية هي أن هذا المسار التطوري سينتهي ببنية الدولة في القرن العشرين الى أقصى لحظات نموها والتمكين لسلطتها ونفوذها السياسي الداخلي، وذلك مع ميلاد "الدولة الشمولية" في النموذج الفاشي ، و"الدولة الشمولية البيروقراطية" في النموذج الاشتراكي.وهذه التقوية الاطلاقية للدولة وسلطتها في النموذج الاشتراكي الماركسي ،يبدو مفارقا للأصول النظرية والفلسفية للماركسية ، إذ تقوم هذه الأصول على رؤية "مادية تاريخية" ترى في التاريخ الاجتماعي والسياسي صيرورة جدلية ستنتهي إلى زوال الطبقات ومن ثم زوال الدولة.ولقد كانت النظرية السياسية اللينينية واعية بوجوب هذه التقوية المطلقة لسلطة الدولة وبنيتها ، حتى أن لينين كان يرى أن تطويرها إلى قوة إطلاقية شمولية هو المستوى التطوري الضروري لنفيها لاحقا؛ لأن في تطوير نظام الدولة الاشتراكية تمكينا لطبقة العمال( البروليتارية) التي هي مقدمة ضرورية لزوال الطبقات.فالماركسية منذ تنظيرها للمادية التاريخية مع ماركس وإنجلز كانت ترى في الدولة أداة طبقية تعكس الصراع الطبقي، ومن ثم فزوال الطبقات – مع المجتمع الشيوعي- يعني زوال الحاجة الى الدولة . ولذا فالمشروع المراكسي يعبر عن فكر حالم بمجتمع اللادولة ، وهو الحلم الذي نجده قد عبرت عنه قبل ماركس الفلسفة الفوضوية مع برودون.وإذا كان القرن العشرون قد شهد خلال صيرورته أكبر تطوير وتقوية لبنية الدولة وسلطتها ، فإنه سيشهد أيضا بداية عملية انحلال قوتها ونفوذها السلطوي، والتقليل من أحادية حضورها على المستوى العالمي ، كفاعل وحيد.وقد بدأ هذا الانحلال أولا بزوال نموذج الدولة الفاشية ، ثم سقوط نموذج الدولة الاشتراكية .ويمكن القول مع بيتر دراكر وغيره من الباحثين والمؤرخين إنه "منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أخذت الدولة القومية ذات السيادة في فقدان مكانتها كوحدة وحيدة للقوة"، بمعنى أنه بعد الحرب العالمية الثانية ستبدأ قوة الدولة في الانحلال تدريجيا فاسحة المجال أمام فاعلين جدد في الواقع السياسي والاقتصادي العالمي.وهنا فإن السؤال الأساسي الذي أخذ يطرح بإلحاح هو :هل ستسمر الدولة كمفهوم وإطار تنظيمي أم أنها مجرد نتاج تاريخي ستنتفي الحاجة إليه فيختفي ويزول ؟ هل ستنتقل البشرية الى الانتظام وفق أطر وبنيات جديدة مغايرة للاطار الجيوسياسي التقليدي (الدولة) أم أنها ستحتفظ بهذا الإطار مع تطويره وتجديد أساليب بنائه ؟لهذه الأسئلة أجوبة شديدة الاختلاف في الخطاب السياسي المعاصر، حيث يذهب البعض إلى القول بأن البشرية مقبلة في قادم السنين على تحولات نوعية في بنياتها السياسية والاقتصادية ، وسيلحق هذا التحول نظام الدولة أيضا على نحو يدفع إلى تجاوزها. لكن اتجاها آخر يرى أن الدولة كإطار جيوسياسي سيبقى ويستمر، وإن لحقه تطوير وتجديد في شكله وصيغ انتظامه. ومن بين الباحثين في مستقبل النماذج السياسية والمجتمعية نجد الكاتب الامريكي دراكر يشير إلى أن "الدولة القومية لن تختفي ، ومن الممكن أن تبقى أقوى وحدة سياسية لوقت طويل قادم"بيد أنه يضيف أنها لن تكون الوحدة السياسية الفاعلة دون منافس، بل ستظهر باستمرار قوى وفاعليات مؤثرة في الواقع ،ستسحب تدريجيا مجموعة من السلط التي كانت الدولة تنفرد بممارستها.بمعنى ان دراكر يذهب الى أن الدولة كاطار جيو سياسي ستبقى لكن مع حدوث تغييرات عميقة ،إن لم نقل جذرية،في السلطة الموكلة لها في نماذجها التقليدية.وبالفعل لقد ظهرت اليوم قوى جديدة أخذت تنازع الدولة في كثير من اختصاصتها ونفوذها.لكن شكل البنية السياسية للمجتمع الاقليمي والدولي من الصعب التنبؤ بطبيعته على نحو تفصيلي ، ولذا يصح ان نقول إن ثمة أسئلة جوهرية وأساسية مطروحة اليوم على التفكير السياسي والقانوني، تشكل محور النقاش في الفلسفة والاقتصاد السياسي الراهن. تلك الأسئلة التي يختصرها دراكر في :"ما الاساس الذي سيبقى للدولة؟ وما هي الجوانب داخل الدولة التي ستقوم بها أطراف أخرى؟ وما الذي سيكون مهما على المستوى القطري؟ وما هو الذي سيكون خارجيا؟ ما هو الذي سيكون محليا ومنفصلا؟" مؤكدا برؤية استقبالية أن "هذه الاسئلة سوف تكون أسئلة لموضوعات سياسية مركزية ستبقى مطروحة لفترة عقود قادمة."إن هذه الأسئلة تشكل اليوم ، وكذا في ما نستقبل من سنين الهاجس الاشكالي المركزي للخطاب السياسي والقانوني.

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية